اعتماد الإنسان على نفسه أصل لكل نجاح حقيقي، وإذا اتصف به كثيرون من أفراد أمة من الأمم، ارتقت تلك الأمة وتقوت، وكان هو سر ارتقائها وتقويها.
1 ـ وما ذلك إلا لأن الإنسان يقوى عزمه باعتماده على نفسه، ويضعف باعتماده على غيره، ألا ترى أن المساعدة التي ينالها الإنسان من غيره تذهب بنشاطه غالبا ؟ لأنها لا تدع موجبا لسعيه في خير نفسه.
2 ـ والاختبار يعلمنا أن الإنسان يصير كاملا بالعمل أكثر مما بالعلم؛ أي إن شأن الإنسان يصلح بالعمل والاجتهاد والاستقامة، لا بالعلم والدرس والشهرة.
3 ـ ولما كانت القدوة من الأمور الفعالة في شؤون البشر، كانت كتب ترجمات المشاهير من أكثر الكتب فائدة، حتى إن بعضهم قد أعطاها المنزلة الأولى بعد الكتب المنزلة؛ لأن فيها أمثلة كثيرة للاعتماد على النفس وثبات العزم وعلو الهمة والنشاط والاستقامة، وغير ذلك من المحامد التي تعلن بكلام صريح ما يستطيعه الإنسان من الارتقاء في ذرى المجد، وتبين ببلاغة عظيمة أن من يعتبر نفسه ويعتمد عليها ينال اسما حسنا وشهرة لا تنسى.
4 ـ وقام من العرب وغيرهم من أمم المشرق أناس عصاميون لا يحصى عددهم، داسوا الفقر الذي ولدوا فيه، وجعلوه مرقاة إلى ذرى المجد؛ فأبو الطيب المتنبي كان ابن سقاء، ولكنه رقي بتوقد ذهنه وبلاغة شعره أسمى المراتب، وجمعت حكمه فكانت مثل حكم أرسطاطاليس كبير الفلاسفة.
5 ـ والزجاج النحوي الشهير كان يخرط الزجاج ثم تركه واشتغل بالأدب، فنال منه الحظ الأوفر.
6 ـ والسيرفي كان يتعيش بنسخ الكتب، والحكيم ثابت بن قرة الفلسفي كان صيرفيا بحران، وأبو بكر الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود، ثم قبل على دراسة كتب الطب والفلسفة، فصار إمام عصره في علم الطب، وصنف فيه الكتب النافعة، كالحاوي والجامع ونحوهما.
7 ـ وياقوت الحموي المؤرخ المشهور صاحب معجم البلدان، أسر من بلاده صغيرا، واشتراه تاجر ببغداد اسمه ابراهيم الحموي، فلما كبر استخدمه بالأسفار في متاجره، فأحرز أشتات الفوائد التي دونها في مصنفاته الجليلة، وكتابه معجم البلدان من أجل الكتب الموضوعة في الجغرافيا.
8 ـ ونيوتون ابن فلاح غير غني، ولابلاس ابن فلاح فقير، وهذان الشهيران نشآ في العسر، ولكنهما حصلا شهرة لا تساويها كنوز العالم باجتهادهما.
9 ـ إن كل من سعى في طلب المجد بهمة كبيرة، وواظب على السعي نال مبتغاه، بل إذا نظرنا إلى كثيرين من الذين نجحوا بسعيهم، رأينا الصعوبات والمتاعب التي صادفوها في أول سعيهم كانت شروطا لازمة لنجاحهم.
10 ـ هذا، ولا خلاف في أن الإنسان لا يأكل خبزا ألذ من خبز عمله عقليا كان أو جسديا، والعمل أساس كل تقدم، فبه ذللت مصاعب الطبيعة، وارتقى الإنسان من وهاد الجهل والخشونة إلى ذرى الحضارة والعمران، وهو من الواجبات والضروريات، وتراه مكتوبا على كل جارحة من جوارح الجسد، وكل لفافة من تلافيف الدماغ، وهو أيضا بركة من البركات، ولا يستثقله إلا كل بليد خامل الذكر كسلان كافر بالنعم.
11 ـ إن أتعب الأعمال مفعم باللذة، وإصلاح شأن العامل أدبيا وماديا، والعمل أحذق معلم، ومدرسته أفضل مدرسة بعد مدرسة الديانة؛ لأننا نتعلم فيها أن نكون مفيدين ومستقلين ومجتهدين.
12 ـ أكثر الأعمال العظيمة تمت بالوسائط البسيطة، وباستخدام القوى الاعتيادية، وفي سبيل الحياة العام فرص كثيرة للاختبار، بل إن طرق الحياة المطروقة أكثر من غيرها تولي المجتهد قوة كافية ليسعى في إصلاح شأنه، والنجاح منوط بناصية الثبات والإقدام، فأكثر الناس ثباتا وإقداما أكثرهم نجاحا.
13 ـ لا يخفى أن إسحاق نيوتن كان من ذوي العقول السامية، ولكنه سئل مرة بماذا اكتشفت كل هذه الاكتشافات الغريبة ؟ فأجاب : ( بالتأمل المستمر فيها)، ووصف في مكان آخر أسلوب بحثه، فقال : (إني أضع الموضوع نصب عيني وأنتظر حتى يبزغ فجره ويصير نورا كاملا).
14 ـ إن دلتون الكيماوي أنكر أن له شيئا من المواهب الفائقة، ونسب كل ما حصله إلى السعي والاجتهاد.
فينتج مما تقدم أن الرجال الذين حركوا الدنيا بأسرها لم يكونوا من ذوي المواهب الفائقة، بل كانت قواهم العقلية معتدلة، ولكنهم كانوا من أهل الجد والثبات، وكثيرا ما سبق البلداء النبلاء في ميدان الحياة؛ لأنهم كانوا أكثر منهم مواظبة، قال المثل الإيطالي: من يسر متمهلا يسر طويلا.
وفي الختام تدعوكم مدونة (ماكينة الأفكار) إلى نشر الموضوع والتعليق عليه ليستفيد الجميع إن شاء الله.
وللتواصل بشكل سريع يمكنكم الاتصال بالحساب السخصي على الفايسبوك :
تعليقات
إرسال تعليق